التعريفات الجمركية- تحول الحلم الأمريكي إلى خطر عالمي؟

المؤلف: د. عمار علي حسن09.07.2025
التعريفات الجمركية- تحول الحلم الأمريكي إلى خطر عالمي؟

ينخرط العديد من المحللين في دراسة متأنية للنتائج الاقتصادية المترتبة على قرارات الإدارة الأميركية بفرض رسوم جمركية على البضائع المستوردة من أغلب دول العالم. هذه التداعيات تتراوح من ارتفاع معدلات التضخم، مما يؤدي بالتبعية إلى ارتفاع الأسعار في شتى أنحاء المعمورة، وصولًا إلى تهديد جزء كبير من بنية الاقتصاد العالمي، وإشعال فتيل حروب تجارية شاملة. ومع ذلك، لا تقتصر آثار هذا القرار على الجانب الاقتصادي، بل تمتد لتشمل جوانب سياسية وثقافية بالغة الأهمية.

ولكي ندرك الأبعاد السياسية والثقافية لهذا القرار المثير للجدل، يتعين علينا العودة بالذاكرة إلى السنوات التي تلت تفكك الاتحاد السوفياتي. في تلك الحقبة، انتهجت الولايات المتحدة في السياسة الدولية سلوكًا مشابهًا لما يتبعه ترامب في المجال الاقتصادي، حيث رفعت شعار "نحن أميركا أولًا"، وانبرى خبراؤها للحديث عن التفرد بالزعامة العالمية، والانتصار الساحق للرأسمالية في بعدها الاقتصادي، والليبرالية في بعدها السياسي. وقد حاول فرانسيس فوكوياما الترويج لهذه الرؤية في كتابه الشهير "نهاية التاريخ وخاتم البشر".

ولم يكتفِ صانع القرار الأميركي بهذا القدر، بل سعى جاهدًا إلى خلق عدو وهمي أو متخيل لضمان استمرار التفوق. ففي هذا السياق، قام ريتشارد نيكسون في كتابه "الفرصة السانحة" بتقديم الإسلام كعدو محتمل، بينما قام صامويل هنتنغتون في كتابه "صدام الحضارات"، الذي لم يبتعد كثيرًا عن توجهات وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، بتوسيع مفهوم العداء ليشمل الحضارات الأخرى، وخاصة الحضارتين الإسلامية والكونفوشيوسية، واضعًا الحضارة الغربية في مواجهة حتمية معها.

لم يمضِ عقد واحد على هذه النزعة المتطرفة حتى بدأ بعض المفكرين وخبراء السياسة الأميركيين الأكثر اعتدالًا يتحدثون عن "حدود القوة". وقد جاء هذا التحول بعد أن أدركت الولايات المتحدة أن قدراتها العسكرية الهائلة، حيث تنفق وحدها ما يفوق عشرة أضعاف ما تنفقه أوروبا بأكملها على التسلح، لا تضمن لها بالضرورة القدرة على تحقيق جميع أهدافها وفرض إرادتها على الآخرين، في أي زمان ومكان.

ففي الصومال، ورغم العملية التي أطلقت عليها واشنطن اسم "التدخل الإنساني"، فشل الجيش الأميركي في ترسيخ وجوده على أرض دولة ضعيفة ومفككة، بل وفاشلة وفقًا للمعايير الدولية في ذلك الوقت.

وفي أفغانستان، التي غزتها أميركا في أكتوبر/ تشرين الأول من عام 2001، ظهرت مقاومة شرسة ألحقت بالأميركيين خسائر فادحة، مماثلة لتلك التي ألحقتها بالسوفيات من قبل.

وفي العراق، الذي سقطت عاصمته في يد الجيش الأميركي في 9 أبريل/ نيسان من عام 2003، واجهت القوات الأميركية مقاومة عنيفة لم تستطع تحملها طويلًا. كما أن العقوبات الاقتصادية لم تمنع إيران من الاستمرار في برنامجها للتسلح، ونجح بوتين في إعادة روسيا إلى موقعها على خريطة القوى الدولية بعد فترة من التهميش، وتقدمت الصين بخطوات واسعة في مختلف مجالات القوة حتى أصبحت المنافس الأكبر للولايات المتحدة.

وعلى مدار عقدين من الزمن، لم يكن الإيمان بـ "حدود القوة" هو الشعور الوحيد الذي نما وترسخ في الولايات المتحدة، بل ازداد أيضًا الانشغال بالإجابة عن سؤال محوري طرحه العديد من علماء السياسة والمفكرين الأميركيين، وهو: "لماذا يكرهوننا؟" أو "لماذا يكرهنا العالم؟"

فقد لاحظ هؤلاء أن شعوب العالم في مشارق الأرض ومغاربها لم تعد تنظر إلى الولايات المتحدة باعتبارها "زعيمة العالم الحر"، كما كان شائعًا خلال حقبة الحرب الباردة (1947-1991)، بل باتت تعتبرها "إمبراطورية استعمارية" أخرى، لا تختلف كثيرًا عن سابقاتها، حتى أن بعض الكتابات بدأت تقارن بينها وبين الإمبراطورية الرومانية.

وقد تعمق هذا التصور بعد أن اتضح للجميع أن ملف حقوق الإنسان ليس سوى أداة من أدوات السياسة الخارجية الأميركية، تستخدمها ضد الأنظمة التي تتعارض مع مصالحها أو تعارضها، فتمارس عليها الضغوط والابتزاز، بينما تتغاضى عنها في حالة الحكومات التي تصنفها على أنها حليفة أو صديقة، أو التي يمكن أن تقدم منفعة للسياسة الأميركية في المستقبل القريب.

واليوم، تتسبب قرارات الرئيس ترامب بفرض "التعريفات الجمركية" في جلب المزيد من الكراهية لبلاده، بعد أن أدت سياساته، خلال فترة ولايته الأولى، إلى تدمير صورة الولايات المتحدة كـ "أرض الأحلام" بالنسبة للكثيرين حول العالم.

ويتعمق هذا التوجه من خلال قرارات طرد المهاجرين، وفرض قيود مشددة على دخول آخرين، بمن فيهم طلاب العلم، الذين كانت واشنطن تعتبرهم في الماضي أدوات لنشر "الثقافة الأميركية" في مختلف أنحاء العالم، وهو ما كان يترجم بدوره إلى مكاسب اقتصادية وسياسية.

إن ردود الفعل المتنوعة من مختلف الدول على قرار ترامب، الذي أعلنه في مناسبة أسماها "يوم التحرير" وعزاه إلى "حالة طوارئ اقتصادية"، تكشف عن وجود إدراك متزايد لحالة التوحش الأميركي، حتى وإن كانت النزعة الاقتصادية والتجارية البحتة هي الغالبة على تصريحات المسؤولين في تعقيبهم على هذه الخطوة.

بل إن الشعور بالاستهانة والاستخفاف الأميركي بالعالم يتزايد، وقد وصل إلى حد أن تشمل هذه التعريفات الجمركية جزيرتي "هيرد" و"ماكدونالد" في القطب الجنوبي، اللتين لا تسكنهما سوى طيور البطريق، ولم تطأهما قدم بشرية منذ عقد من الزمان، وهو ما دفع رئيس الوزراء الأسترالي، أنتوني ألبانيز، إلى القول: "لم يعد هناك مكان على وجه الأرض في مأمن من هذه القرارات الطائشة".

إن اختيار اسم "يوم التحرير" لمثل هذا الإعلان يحمل، في حد ذاته، دلالات سياسية وثقافية عميقة، فهو يحول التعريفة الجمركية من مجرد إجراء اقتصادي إلى إشارة رمزية مفادها أننا وحدنا في مواجهة الجميع، وأن النظام الدولي الحالي يجب أن يتغير لصالحنا، ولو بالقوة. ولم يعد يكفينا التفرد بالقمة، بل نسعى لمنع أي أحد من مجرد التفكير في الاقتراب منها.

وكما يقوم الرئيس ترامب بهدم الأسس والتقاليد السياسية والدستورية والإدارية والأمنية داخل الولايات المتحدة بشكل تدريجي ومتعمد، فإنه يفعل الشيء نفسه خارجها.

وهي مسألة بدأت بالانسحاب من المنظمات الأممية، والاستخفاف بالقانون الدولي، ثم الحديث الصريح عن غزو الدول والسيطرة عليها، وصولًا إلى اتخاذ قرار بشأن الرسوم الجمركية دون أي تشاور أو تفاوض أو تفاهم مع أي طرف.

قد تكون هذه الحالة من التعالي هي الذروة التي بلغتها الإمبراطورية التي تعتقد أنها تحتكر قيادة العالم، وبعدها سيبدأ منحنى القوة في الانحدار، خاصة وأن الجميع بات يدرك الآن، في ظل التوجهات الترامبية، أن "الحلم الأميركي" قد تحول إلى "خطر أميركي"، وأن الصبر عليه لن يطول، وأن طرق مواجهته يجب أن تتنوع وتتوسع وتتعمق، إلا إذا قرر الرئيس ترامب تغيير سياسته، وهو أمر مستبعد، أو تنبه خلفاؤه إلى أن استفزاز العالم بأسره ليس في مصلحة بلادهم.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة